🖋️ بقلم نور الولاية عودة
كانتْ قد تأثّرَت الدّولُ جمعاء جرّاءَ فايروس كورونا covid-19، الضّيفُ الثقيلُ الّذي حلَّ عليها زائرًا منذُ العامِ المنصرمِ، والّذي ما انفكّ يسجّلُ أرقامًا قياسيّةً للمصابين بهِ وحصدِ أرواحٍ جرّاءَ انتشارِه انتشارًا واسعًا ومخيفًا خاصةً في الآونةِ الأخيرةِ؛ الأمرُ الّذي أدّى إلى تأزّمِ الدّولِ أكانت متطوّرةً أم ناميةً أم مصنّفةً تحتَ خطِّ الفقرِ على عدّةِ أصعدةٍ منها الاقتصادي والصّحي والتّربوي.
وفي ظّلِّ الانهياراتِ الّتي شهدناها دوليًّا على هذهِ الأصعدةِ، وَجبَ تصنيفُ صحّةُ الإنسانِ في صدارة قائمة أولويّاتِ الدّول؛ لأنّ كلَّ شيء يعوّضُ عدا الأرواح.
ولهذا، استطاعتْ بعضُ الدّولِ أن تحدَّ من انتشارِ هذا الضّيفِ الثّقيلِ اعتمادًا على وعيِ الشّعبِ ومحاضرِ الضّبطِ القانونيّة، فكونُه ينتشر عبرَ المصافحةِ والسّعالِ المباشرِ لا الهواءِ؛ ألزمَتِ الشّعبَ بالتّباعدِ الاجتماعي ووضعِ الكِمامَةِ واستخدامِ المعقّماتِ ولزومِ المنزلِ؛ أمّا شعوب الدّولِ الأُخرى، فلا تزالُ تقبعَ تحتَ تأثيرِ مخدِّرِ نفي وجود هذا الفيروس، وتتعاملُ معه اجتماعيًّا بكلَّ أريحيّة، ممّا يسبّب نشرَ هذا الفيروس على أوسعِ نطاقٍ، وبخاصّة عدمُ ظهورِ عوارضِه على بعضِ الحالاتِ المثبتة، وهذا ما نشهده عند شريحة ليست ضيّقة من الشّعب اللّبناني، وهو إن دلَّ على شيء، إنّما يدلُّ على أنّنا أمامَ ظاهرةِ انتشارٍ واسعٍ معالم أجلها غامضة. ولكن؛ أين الطّلبةُ من هذا التّباعدِ الاجتماعيِ؟ ما مصيرُ العامِ الدّراسي في بلدٍ يعيشُ أزمةُ اقتصاديّةُ صعبةُ كلبنانَ؟ وهو الموضوعُ الأهمُّ الّذي نتناولُه.
ابتكرتْ الدّولُ المتطوّرةُ نظامًا تعليميًّا جديدًا في سبعينيات القرنِ الماضي وهو التّعلّمُ من بعد عبرَ الإنترنت وعلى وجهِ الخصوصِ في المراحلِ الجامعيّةِ، وآلتْ إلى منحِ شهاداتٍ معترفٍ بها رسميًّا على إثرِها، وجاءَ هذا النّظامُ الحلَّ الوحيدَ أمامَ الطّاقمِ التّعليمي في ظلِّ هذه الجائحةِ الّتي فرضتْ نفسَها، ليصار إلى تداولِه في كلّ البلدانِ، كلٌّ حسْبَ فهمِه لهذا النظامِ التعليمي وحسْبَ قدراتِه الاقتصاديّة الماليّة.
وللبنانَ حصّته منْ هذا النظامِ الّذي فرضّ نفسَه في ظلِّ أجواءٍ لا تسمحُ للمتعلمين أن يحضروا إلى غرفِ الصّفِّ. ولأنّه كغيرهِ من الدّولِ، شهدَ موجةَ انتشارِ كبيرةٍ لهذا الفيروسِ في ظلِّ أحوالٍ اقتصاديّةٍ صعبةٍ، حيثُ بات يسجَّلُ آلافً الحالاتِ يوميًّا من المصابين بهِ، بعدَ أنْ كانَ انتشاره بطيئًا العام الماضي. فكانت النّتيجةُ التّخبطَ، وعدم القدرة على اتخاذِ القراراتِ الواضحةِ فيما يخصُّ العام الدّراسي حيالَ هذا الانتشار في ظلّ إمكانياتٍ مادّيةٍ صعبةٍ. وعلى ضوءِ هذا، ولأنّ صحّةَ الطّالبِ هيَ الأهمُّ، اعتمدوا على التّعليمِ المدمجِ، على اعتبارِ أنّه وسيلةٌ يُدرأُ بها إلغاءُ العامِ الدّراسي.
والتعليمُ المدمجُ هوَ نظامُ تعليميٌ مبتكرٌ، يدمجُ نوعين منَ الأنظمةِ التعليميّةِ، لكلِّ واحدٍ منهما وسائلُه الإيضاحيّة الخاصّة؛ نظامٌ ورقيٌّ قديمٌ يعتمدُ على الحضورِ الفعلي للطالبِ والمعلمِ في قاعةٍ صفّيّةٍ لها ضوابطها الزمكانيّة الفارضة نفسَها على أيّ طالبٍ كان، حيثُ يتمًّ شرحُ الدّرسِ من وراءِ المقاعدِ الخشبيّة، وأمام لوحٍ تقليديّ أو ذكيّ. يتبادلُ المتعلمون والمعلّمُ أثناءه المعرفةَ وأسئلةَ الاستفسارِ؛ ونظامٌ جديدٌ مستحدثٌ ذو ضوابط زمنيّة، يحتاجُ إلى آلةٍ ذكيّةٍ تعتبرُ صلةَ وصلٍ بينِ المتعلمين والمعلّمِ، موصولةٌ عبر الشّبكةِ العنكبوتيّة؛ يتمُّ الشّرحُ بوساطةِ البثّ المباشرِ online للمعلمِ فيتلقاهُ المتعلّم عبرَ آلتهِ الذّكيةِ في الوقتِ عينِه، يتبادلُ أيضًا المتعلّمون والمعلمُ في ظلّه الاستفساراتِ والأسئلةِ، بحيثُ يجدُ الطّالبُ نفسَه في جوٍّ مشابهٍ لغرفةِ الصّفِّ، وهو المتعارفُ عليهِ بال e-learning، أمّا التّزاوجُ بينَهما، فيتمُّ منْ خلالِ استخدامِ الوسائلِ التكنولوجيّة في خدمةِ التعليمِ من أجلِ الهدفِ المرجوِّ، وهوَ إيصالُ المعلومةِ إلى المتعلّمِ بشكلٍ واضحٍ. فكيفَ هي الحالُ في التّعاملِ معَ هذا النّوعِ من التّدريسِ في بلدٍ لا يملكُ أدنى مقوماتِ المناعةِ التكنولوجيّةِ، ويشهدُ أزمةً اقتصاديّةً سياسيّةً صعبةً؟
بسببِ تردّي الأوضاع الاقتصاديّةِ السّياسيّةِ في لبنانَ، وعدم استطاعةِ الدّولةِ دعم المدارسِ بالتجهيزاتِ اللّازمةِ، اتّجهتْ بعضُ المدارسِ المتمكّنةِ ماديًّا إلى إنشاءِ منصّاتٍ تعلّميّةٍ platform لا زمكانَ لها، تتمُّ عمليّةُ التّعليمِ منْ خلالِ إرسالِ ما يتطلّبُه المنهاجُ التعليميُّ منْ دروس عبرَها. يستتطيعُ الطّالبُ أنّى شاءَ العودةَ إليها ليحصّلَ تعليمَه، وهي الأفضلُ في ظلِّ انقطاعٍ مستمرٍّ للتيارِ الكهربائيِّ، وخدماتِ اشتراكِ انترنت رديئة.
أمّا بعضُها الآخر، آل إلى التّعليمِ online من خلالِ حضورِ المعلِّم إلى الصّفِ، وشرْحِ الدّرسِ بشكلٍ مباشرٍ عبرَ تطبيقاتِ الانترنت ك skype وغيره، يتلقّاهُ المتعلّمُ عبرَ آلتِه الالكترونيّةِ بدخولِه التّطبيق ومشاهدة البث مباشرةً. يستطيعُ المتعلّمُ إزاءه أن يمارسَ دورَهُ التّعلميّ على أكملِ وجهٍ في جوّ قريبٍ من غرفةِ الصّفِ، فيستطيعُ طرحَ أيّ سؤالٍ مؤشكلٍ لديه. ولكنْ، هذا النوعُ من التّعليمِ عرضةً لانقطاعِ البثّ المباشرِ إثرَ ضعفِ شبكةِ الانترنت أو الانقطاعِ المفاجِئِ للتيار الكهربائي.
وجاءَ الحضورُ الشّخصيُ للمعلمِ والمتعلمين إلى الصّفِ الحلُّ الأنسبَ لدى فئةٍ أخرى من المدارسِ لم تهيّئْ طاقمَها التّعليمي لأنظمةِ التّعلّمِ من بعد أو غير قادرةٍ على سدّ تكاليفةِ، في وسط يخيّم عليه مراعاةُ التّباعدِ الاجتماعيِّ ووضعِ الكِمامَةِ (اللّفامِ)، وتقسيمِ المتعلمين إلى قسمينِ يتداوران الحضورَ إلى الصّفِّ أسبوعيًّا، ينالُ كلُّ قسمٍ حصّتَه من التّعليمِ في صفٍّ اعتادَه أمامَ اللّوحِ والمقاعدِ الخشبيّةِ وفلفشةِ الكتبِ، يمارسُ فيهِ حقّهُ المشروعَ على أكملِ وجه، ليصار إلى تلقينِ الدّروسِ للقسمِ ذاتِه الكترونيًا في الأسبوعِ الّذي يليه بإنشاءِ مجموعةٍ group عبرَ تطبيقِ الوتس أب ترسلُ الدروسُ عبره على شكلِ تسجيلاتٍ صوتيّةٍ أو مقاطعِ فيديو. لكنّ، إثرَ أيّ تضعضع في إجراءاتِ الحذرِ والحيطةِ المتّخذة، يوضعُ الطاقم التّعليمي ككلّ والمتعلمون على خط التّماس وانتشار الفايروس، وبالتّالي إقفالُ المدارسِ حتّى إشعارٍ آخر.
إنْ كانتْ قد نجحتْ هذه الأنظمةُ المبتكرةُ في أماكنَ معيّنة ولو بنسبٍ مختلفةٍ ومحدودةٍ، فإنّ فشلَها الذّريعَ جاءَ واضحًا في محطّاتٍ أخرى استنادًا إلى الأسباب التّالية:
1. أسباب لوجيستيّة:
-الفهمُ الخاطئُ لنظامِ التّعليمِ من بعد المبتكر.
-تطبيقُه من دون وضعِ مخططاتٍ مسبقة تتلاءم ووضع البلد الراهن.
-غيابُ فرق تدريب الطاقم التعليمي حول كيفية التعامل مع هذا النّظام التّعليمي الجديد.
-غيابُ النّدواتِ العلميّةِ حول تطبيق هذا النظامِ عن السّاحةِ اللّبنانية.
-عدم توفّر إمكانيات مادّية تدعم هذا النّظام.
-تقصير من وزارة التّربية في عدمِ تشريع نظام تعليمي مدروس مسبقًا لكلّ مرحلة من مراحل الدّراسة يطبّق على المدارس كافة.
2. أسباب روتينية:
-استهتارُ المتعلمين وعدم التعامل مع وضع التّعليم الرّاهن بجدّيّة.
-عدم منهجة المناهج الدّراسية في كتب رقميّة إلكترونيّة تدعم نظامَ التّعليم من بعد.
-تطبيقُ النّظام التّعليمي عينه على جميعِ المراحلِ الدّراسيّة.
-عدم مراعاة التفاوت بين قدرات الاستيعاب عند الطّلبة.
-الأفكار المسبقة الّتي اكتسبها الطّالب عن عدم جدوة هذا النّظام المستجد.
-توكيل المدارس مهام اختيار ما يناسبها من الأنظمة التعليمية.
3. أسباب اجتماعيّة اقتصاديّة عائليّة:
-الضّغوطات النّفسيّة الّتي يعيشها المتعلّمون حيال مصير عامهم الدّراسي.
-الضّغوطات النّفسيّة الّتي يعيشونها في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة.
-تأثير الأزمة الاقتصاديّة على شريحة واسعة من الأهالي، وعدم قدرتهم على تأمين شبكة إنترنت في المنزل أو حتّى آلة ذكيّة لكلّ طالب علم.
-إنقطاع التّيار الكهربائي المتكرّر على جميعِ الأراضي اللّبنانيّة.
-ضعف شبكة الإنترنت على جميعِ الأراضي اللّبنانية.
-مزاولة المرأة عملها خارج المنزل، وبالتّالي غياب رقابة التّدريس، وهذا ما ينعكس سلبًا على طلاب المراحل التدريسيّة الأولى والثانية.
-عدم قدرة جميع الأهالي على تأمين مدرس خصوصيّ يواكب سير تعليم أطفالهم.
-شريحة من الأهالي ليس لها القدرة على التعامل مع الأجهزة الذّكيّة.
-عدم قدرة الأهالي على تأمين التدفئة في جميع غرف المنزل.
لا يقتصر تأثير هذه الأنظمة المستجدّة الفارضة نفسها سلبيًّا على الطّالب، بل أتى بعضها محفوفًا بالإيجابيّات الّتي يجب أن تُعامل بجدّيّة وانتهاء فيروس كورونا، على اعتبار أنّها مشاكل يعاني منها نظامنا التّعليمي. بعض هذه الإيجابيّات:
-تقليل ساعات الحضور إلى المدرسة.
-تقليل أيّام الذّهاب إلى المدرسة.
-تعديل المناهج الدّراسيّة بإلغاء الحشو.
وإزاء هذه الإيجابيّات، غدا ذهاب التّلامذة إلى المدرسة ينمّ عن حبّ قلّ نظيره في السّنوات الفائتة، ولم تعدْ الدروس الملقاة على عاتقهم عند عودتهم إلى المنازل هاجسهم الأكبر، بل استساغوا الذّهاب إلى المدرسة ولم يعد تحصيل حقّهم في التّعلم أمرًا شاقًا.
إستنادًا إلى ما تقدّم، وبسبب تفاوت نسب كميّة المعلومات الواجب تحصيلها في العام الدّراسي عند الطّلبة، وعلى وجه الخصوص صفوف الشّهادات الرّسميّة، من واجب وزارة التّربية إصدار قرارات تطبّق على جميعِ المدارس أكانت رسميّة أم خاصّة، واستباق الوقت بوضع خطط تعليميّة تراعي الأوضاع الرّاهنة على جميعِ الأصعدة مع حضور الرّقابة درءًا لفكرة إلغاء العام الدّراسي إن كانت واردة، لأنّه ليس بالأمر السّهل سلبُ أيّ طالب سنة كاملة من عمره، كما ويتوجّب عليها إنشاء منصّات تعلّمية Platform ممنهجة بطريقة علميّة خالية من الحشو لكلّ سنة دراسيّة بموازاة إقامة دراسات إحصائيّة حول العيل الأشد فقرًا ليتم تزويدها بالآلات الذكيّة.
أخيرًا، إنّ سلامة الطلبة هي الأهم، أكان صحّيًا أم نفسيًّا، وعلى الدّولة مراعاة الظّروف المحيطة بهم ككلّ، وأن يكون العدل لا المساواة بينهم أساس أي خطوة يقدمون عليها. كما ويجب عليها ووزارة التّربية والأهالي والمدارس التآزر قدر الإمكان ليخرج الجميع من هذه المرحلة الصّعبة الّتي تخيّم على البلد بأقل أضرار ممكنة.