لم يعد حجم الكتلة النقدية بالليرة المتواجد في السوق قادراً على خلق المزيد من الطلب الفعّال على الدولار في السوق السوداء، وبالتالي فإنّ سعر صرف الليرة سيحافظ على استقراره الحالي ولن يتأثر بالعوامل النفسية التي تتحكّم بها المراكز المالية البديلة العائمة على بحر من الدولارات.
مع توقّف المصارف بشكل كامل عن العمل نتيجة الاقفال العام الذي تم تمديده لغاية 8 شباط، شُلّت التحويلات المالية من الخارج عبر القطاع المصرفي وتوقف تدفّقها عبر تلك القناة، إلا انها ما زالت سارية عبر شركات تحويل الاموال ولو بأحجام أقل من المصارف وعبر المطار الذي يشكّل المنفذ الاكبر لدخول العملة الصعبة الى البلاد.
وفي غياب الاحصاءات والارقام الدقيقة الرسمية، ذكر المستشار الاقتصادي في صندوق النقد الدولي لأميركا اللاتينية، رند غياض، أن تحويلات المغتربين إلى لبنان بلغت في العام 2020 ما يقارب الـ 7 مليارات دولار مُتخطّية بذلك معدل السنوات الـ 15 الماضية البالغ 6.8 مليارات دولار، في حين سجلت التحويلات المالية الى لبنان عبر شركات تحويل الاموال ارتفاعاً الى 1.2 مليار دولار في 2020 مقارنة مع 1.1 مليار في 2019. وقد أكدت مصادر شركة OMT لـ«الجمهورية» انّ حوالى 150 ألف عائلة بالحد الادنى تستفيد شهرياً من التحويلات الواردة من الخارج نقداً وبالدولار الأميركي بمعدل 300 دولار أميركي لـ 60% من التحاويل الآتية من الخارج. وقد سجلت التحويلات عبر الشركة زيادة بنسبة 50% بعد انفجار مرفأ بيروت، وتحديداً خلال آب وأيلول 2020، بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام 2019، نتيجة تضامن المغتربين مع أهلهم وأقاربهم في لبنان.
ولكن مع توقّف محركات الانتاج في البلاد، وما يُفترض ان يؤدّي الى تراجع في الطلب على الدولار في السوق السوداء، لم يشهد سعر صرف الليرة اللبنانية تحسّناً لغاية اليوم وما زال مستقراً عند معدل 8800 و8900 ليرة مقابل الدولار. فلماذا لم تتخطّ الليرة بعد سقوفها القصوى في ظلّ أسوأ فترة يمكن ان تمرّ بها البلاد على كافة الاصعدة السياسية والاقتصادية والمالية والصحية؟
شرح الخبير الاقتصادي بيار الخوري ان لبنان يسير منذ أواخر العام 2019 في مسار انحداري اقتصادي شامل طويل الأجل، لا ينحصر فقط بسعر صرف العملة المحلية بل بالمؤشرات الاقتصادية كافة: الناتج المحلي الاجمالي، معدل التضخم ومعدل البطالة أي قدرة البلاد على إنتاج قيَم مضافة وخلق الوظائف بالاضافة الى قدرتها على ضبط مستوى الاسعار.
ورأى انه في ظل تدهور تلك المؤشرات الاقتصادية، فإنه «من المستغرب انّ سعر صرف الليرة مقابل الدولار في السوق السوداء ما زال محافظاً على استقراره نسبياً، وهو امر لا يمكن تفسيره بالتوازي مع اتجاه الأزمة الطويل الأمد».
وفي هذا الاطار، شدّد الخوري لـ»الجمهورية» على ضرورة التمييز بين الرغبة باقتناء الدولارات والقدرة الفعلية على اقتنائها، اي الطلب الفعّال الذي انعدم نسبياً اليوم في سوق بيروت نتيجة تراجع القيمة الفعلية لكتلة السيولة الساخنة بالليرة اللبنانية في السوق M0 الى ما دون الـ3 مليارات دولار، رغم الارتفاع الهائل في طباعة العملة، والذي حصل خلال العام الماضي وبداية العام الحالي، علماً انّ حجم تلك الكتلة يبلغ اليوم 27 تريليون ليرة، وكان ليوازي اكثر من 18 مليار دولار في حال تم احتسابه وفقاً لسعر الصرف السابق عند 1500 ليرة.
واوضح انّ سعر صرف الليرة مقابل الدولار الاميركي والعملات الاجنبية في بيروت يُفتَرض أن يكون محكوماً بعاملين اثنين:
- عامل حجم السيولة المتوفرة بالليرة اللبنانية لخلق الطلب على العملات الاجنبية.
- عامل الثقة
وشدّد الخوري على انّ الطلب الفعّال على الدولار غير قائم في السوق بسبب عدم توفّر السيولة النقدية بالليرة، مشيراً الى انّ الطلب على الدولار قائم فقط لدى منصّة مصرف لبنان التي تقوم بامتصاص السيولة بالليرة المتواجِدة في السوق.
في المقابل، ذكر الخوري انّ الطلب المضارب، الذي تتحكّم به المراكز المالية الكبيرة الموجودة في السوق، هو الذي يعمل على التلاعب بسعر الصرف صعوداً ونزولاً تَماشياً مع التطورات السياسية او الامنية او الاقتصادية، موضحاً انّ أي تدهور إضافي في سعر الصرف وصولاً الى سقف الـ10 آلاف ليرة، على سبيل المثال، سيتبعه ارتفاع في سعر صرف الليرة، لأنه سيكون ناتجاً عن عمليات مضاربة وليس عن عمليات تعكس القيمة الحقيقية للنقد الموجود في السوق، والمُستَخدم في جزء كبير منه للاستهلاك المحلي وليس لاقتناء الدولارات وتخزينها، مشدداً على انّ الكتلة النقدية الساخنة لم تعد قادرة على صنع تغييرات جوهرية في سعر الصرف.
ولفت الى انّ السوق تعوم اليوم على بحر من الدولارات ناتجة في معظمها عن عمليات تبييض أموال، وتتحكّم بها المراكز المالية الكبرى التي تملك دولارات أكثر من حجم السوق اللبناني، وباتت اليوم بمثابة السلطة النقدية البديلة التي تتحكّم بسعر صرف الليرة تماشياً مع مصالحها، وبهامشٍ يتراوح بين 7 و10 آلاف ليرة منذ 7 أشهر، وهي قادرة على ضبط العوامل النفسية لمنع أي انهيار إضافي لليرة في ظلّ غياب الطلب الفعّال على الدولار.