الخبير المالي والاقتصادي أحمد بهجة
تأخر رياض سلامة كثيراً وكثيراً جداً (ليس أقلّ من 25 سنة) حتى أعلن تحرير سعر صرف الليرة اللبنانية وانتهاء زمن ربطها بسلة العملات الأجنبية وخاصة الدولار الأميركي، وفيما هو يعلن انتهاء مفعول السياسة النقدية التي أدارها خلال السنوات الماضية، وأوصلت البلد إلى هاوية الإفلاس، بقي مُصرّاً على المكابرة والقول إنّ تلك السياسة جعلت لبنان يعيش عصراً ذهبياً لفترة من الزمن! عن أيّ عصر ذهبي يتحدث هذا الرجل؟ يكفي أن نسأل عن ذلك عشرة مواطنين يبلغون من العمر اليوم خمسين عاماً، أيّ أنّهم كانوا في مطلع العشرينات حين تمّ تعيين سلامة حاكماً للمصرف المركزي عام 1993، وكُلّف من أصحاب سياسة إعادة البناء والإعمار بإدارة السياسة النقدية، يكفي سؤال عشرة فقط حتى يأتي الجواب اليقيني بأنّ ما وصلنا إليه اليوم من كوارث، سواء على مستوى الأفراد أو على المستوى العام، ما هو إلا نتيجة حتمية لما تمّ اتّباعه من سياسات قامت على بيع الوهم وتركيب الطرابيش بكلّ ما للكلمة من معنى. لقد كان هناك إصرار على ارتكاب الأخطاء والخطايا، رغم أنّ عدداً غير قليل من السياسيين والخبراء الاقتصاديين المنزّهين عن المصالح الخاصة، حذروا منذ البدء مراراً وتكراراً من الكارثة التي سنصل إليها نتيجة اعتماد تلك السياسات التي يتمّ اليوم التراجع عنها، ولكن بعد خراب البصرة. المعارضون لسياسة تثبيت سعر صرف العملة الوطنية عن طريق رفع الفوائد المصرفية إلى مستويات عالية جداً رأوا باكراً النتائج التي ستؤدّي إليها تلك السياسة، وقد تمّ التداول في الأسبوع الماضي على وسائل التواصل الاجتماعي بفيديو يظهر فيه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في مقابلة تلفزيونية مع الإعلامية البارزة ماغي فرح عام 1998، يوم كان لا يزال مقيماً في باريس، ومنذ ذلك الحين طرح الرئيس عون ما يطرحه اليوم بشأن التدقيق المالي في مصرف لبنان وضرورة خفض الفوائد المصرفية لأنّ الفوائد العالية تكبح النشاط الاقتصادي وتسحب رؤوس الأموال باتجاه الريع والمضاربات، أما المطلوب فهو خفض الفوائد وإعطاء أصحاب هذه الرساميل الحوافز اللازمة وتشجيعهم على الاستثمار في المشاريع المنتجة. كذلك طرح خبراء الاقتصاد والمال بدائل كثيرة كان اعتمادها كفيلاً بتوفير عشرات مليارات الدولارات التي هُدرت بحجة حماية سعر الصرف، بينما كان يمكن ترسيخ هذه الحماية من خلال اعتماد سياسات اقتصادية منتجة تحقق النمو الفعلي الذي يستفيد منه كلّ الناس بينما لم يستفد من رفع الفوائد إلا أصحاب المصارف وأصحابهم من السياسيّين ومعهم قلة قليلة من المقتدِرين الذين يملكون أكثر من 90 في المئة من الودائع المصرفية. لكن الذين وضعوا السياسات الخاطئة منذ البداية ركبوا رؤوسهم ورفضوا الاستماع إلى ما يقوله العلم ولا هم التفتوا إلى تجارب دول أخرى عرفت الخراب نتيجة اتباع السياسات نفسها، والسبب هو ارتباطهم بمشروع سياسي قائم على ما كان أطلق عليه يومها مسيرة "السلام العربي ـ الإسرائيلي"، رغم أنّ تلك المسيرة أصيبت في مقتل وتوقفت في منتصف التسعينيات وانحرفت عن مسارها باتجاه اتفاقات جانبية في أوسلو ووادي عربة وغيرها، إلا أنّ المراهنين في لبنان استمرّوا برهن البلد واقتصاده لمصلحة سياسات غريبة عجيبة كلفت مليارات الدولارات ولم تحقق أيّ إنجاز فعلي إلا في البروباغندا الإعلامية المدفوعة الأجر أيضاً وبمبالغ سخية جداً من الخزينة العامة. ويمكن للمراقب أن يواصل في السياق نفسه ويكتب مجلدات عما حصل خلال العقود الثلاثة الماضية من موبقات وارتكابات لا تعدّ ولا تحصى، لكن ما يهمّنا اليوم هو معالجة الحاضر بالحاضر كما يُقال، لأنّ المواطنين ملّوا سماع وقراءة المطولات، ويريدون فقط رؤية الحلول الناجعة قد أخذت مسارها نحو التطبيق. وقد وضعت حكومة الرئيس الدكتور حسان دياب خطة للإنقاذ المالي وأقرّتها في نيسان الماضي، ورأى الخبراء المنزّهون أنها أقرب ما يكون إلى الواقع وقابلة للتنفيذ، وعلى أساسها سارت المفاوضات بطريقة أكثر جدية مع صندوق النقد الدولي، غير أنّ المتربّصين كانوا كثراً واجتمعوا من كلّ المشارب على هدف تفشيل الحكومة وخطتها، وخاصة رئيسها النظيف الكفّ والاختصاصي الحقيقي، القادر على قيادة سفينة الإنقاذ وإيصال البلد إلى برّ الأمان، وعندها يمكن تحرير سعر الصرف لأنّ الاقتصاد النشيط والفاعل والمنتج كفيل بحماية العملة الوطنية وبتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، وفي الوقت نفسه لا بدّ من محاسبة المسؤولين عن كلّ هذا الخراب، وذلك بوضع كبار الفاسدين والمرتكبين خلف قضبان السجن، بدءاً برياض سلامة ومعه كلّ شركائه من السياسيين والمصرفيين والإعلاميين وغيرهم.