علي دقماق 24/11/2020
نقَشت مع حسان دياب. رئيس حكومة تصريف الأعمال باقٍ، باقٍ، باقٍ، في السراي الكبير.
أكثر من مائة يوم على إستقالة حكومته، وها هو حسان دياب يتابع عمله من مكتبه في السراي الكبير في وسط بيروت. إهتز أثاث السراي وتكسرت مقتنيات كثيرة فيه في إنفجار 4 آب/أغسطس، ولم تنكسر أو تهتز إرادة هذا الرجل. لا شيء يوحي أنه مستقيل أو أن حكومته تتولى تصريف الأعمال.
أطاحت موجة انفجار “نيترات الأمونيوم” في مرفأ بيروت، بالسلطة السياسية، مادياً ومعنوياً. فرطت العقد الحكومي. نوافذ الواجهة الأمامية للسراي تشي بالأمر، فهي ما زالت مغطاة بالنايلون. فضّل حسان دياب ذلك على الصيانة الفورية، في إنتظار من يتبنى الترميم من الدول، وأبرزها الكويت التي ربما تأخذ الأمر على عاتقها، بشراكة مع بعض المتبرعين المحليين!
في 21 كانون الثاني/يناير 2020، ولدت حكومة حسان دياب المؤلفة من 19 اختصاصياً/ةً من غير الحزبيين، وهي الحكومة الأقرب إلى “التكنوقراط” في مرحلة ما بعد الطائف، ولو أن معظم الوزراء فيها، سمّتهم أحزاب سياسية.
تميزت ولادة الحكومة بأمور عديدة، أبرزها إشراك النساء للمرة الأولى بست وزارات وازنة بينها موقع نائب رئيس الحكومة وللمرة الأولى في تاريخ لبنان؛ تعهُّد الفريق الوزاري برفع السرية المصرفية عن حساباته؛ بعدم الترشح للانتخابات النيابية. غير أن الظروف السياسية والاقتصادية و”الطبيعية” جرت بما لا تشتهي سفن الحكومة ورئيسها. كوابح كبرى حالت دون تنفيذ البرنامج الإصلاحي، من الحصار الاقتصادي ولعبة الدولار المبهمة، إلى جائحة “كورونا” الخطيرة، والأهم الإرادات السياسية الداخلية والخارجية الساعية لإفشال الحكومة.
*أيقن الرجل أن الفساد في لبنان ليس قوياً فحسب، بل إنه “أكبر من الدولة” نفسها، بدليل ما أصاب التدقيق الجنائي في الأيام الأخيرة، أي إنسحاب شركة “الفاريز آند مرسال”*
جابه الرجل الذي يتفاخر حين يصف نفسه بـ”الكاميكازي” هذه الضغوط، انطلاقاً من “إيماني بربي”، متكئاً على “أعصابي الحديدية”، ولولا هاتين “ما كنت بضاين ولو شهر واحد”، والكلام لحسان دياب.
*التدقيق.. ثم التدقيق*
فصل رئيس الحكومة بين مفهوم العمل السياسي، وبين “الكذب الذي تُكنّى به السياسة اللبنانية”. انطلق من عدم الرغبة بالمكاسب الشخصية. “لا أريد شيئاً لنفسي” يرددها دائماً، معتبراً بأنها نقطة قوته الأهم. لم ينقطع سعيه إلى محاربة الفساد، بما يتيح له الدستور والقوانين من صلاحيات، إلا أنه ربما تطرّف في ذلك “زيادة عن اللزوم”، كما سمعها من بعض المقربين. وضع التدقيق الجنائي “أو التشريحي” ـ الذي استفز الكثيرين من أهل السلطة ـ على السكة منذ آذار/مارس الماضي، مستمراً بالسعي لتحقيقه حتى “الدقيقة الأخيرة”، محاولاً قطع الطريق على كل الراغبين بتفريغه من مضامينه ومحتواه. سلوك غير مسبوق لرئيس حكومة هدد “الدولة العميقة” في الصميم، الأمر الذي أزعج بعض “الحلفاء” أكثر من “المعارضين”، فاستعرت الحرب وازدادت حدة التهجم عليه. بعد هذا المخاض، أيقن الرجل أن الفساد في لبنان ليس قوياً فحسب، بل إنه “أكبر من الدولة” نفسها، بدليل ما أصاب التدقيق الجنائي في الأيام الأخيرة، أي إنسحاب شركة “الفاريز آند مرسال”.
*“لا” للمرة الأولى في السراي*
لا يُخفي دياب، النائب السابق لرئيس الجامعة الأميركية في بيروت، موقفه غير المعادي للغرب والأميركيين. يعبّر عن ذلك بمنتهى “الشفافية”. بينه وبين السفيرة الأميركية دوروثي ك. شيا علاقة “تقدير واحترام”. كان قد دعاها، غداة وصولها إلى بيروت، إلى مأدبة غداء في السراي واستجابت لدعوته. يوازي الرجل بين هذه الناحية وبين حرصه الشديد، في المقابل، على السيادة اللبنانية. لعله الأول من موقعه على رأس السلطة التنفيذية الذي قال “لا” بالفم الملآن لسفير دولة كبرى كالولايات المتحدة. ترجم قوله عملياً. ومثلما لا يحق للبنان التدخل بتعيين أية شخصية في المصرف الفدرالي الأميركي، قرر دياب أن يقطع الطريق على التدخل الأميركي في مسألة تعيين الدكتور محمد بعاصيري نائباً لحاكم مصرف لبنان المركزي. هي سابقة في التعامل اللبناني مع الدولة الأقوى في العالم!
*“هل أنت جدّي في ما تفعل”؟ سألته السفيرة الأميركية، قاصدة خيار التوجه نحو الصين، فأجابها مبتسماً: “حتماً”!*
هذه الآلية في العلاقة مع الدول، انسحبت أيضاً على الأمم المتحدة. في 8 نيسان/أبريل الماضي حل ستيفانو ديل كول قائد قوات “اليونيفيل” ضيفاً على طاولة رئيس الحكومة في السراي، وراح يتحدث عن خروقات حزب الله للحدود البرية مع “دولة إسرائيل” لناحية الأنفاق وغيرها.. لم يدعه دياب يكمل سرده، وهو الذي كان قد طلب دراسة عن خروقات “العدو الإسرائيلي” في تلك الفترة، فراح يعددها لضيفه (12600 خرق جوي، خروقات برية وبحرية عدد كذا وكذا..)، مشيراً إلى أن هذه الخروقات هي الـ99% المليئة من الكوب، بينما خروقات الجانب اللبناني هي الـ1% الفارغة.
أبلغ رئيس الحكومة قائد “اليونيفيل” أنه لن يكتفي بالاحتجاج إلى الأمم المتحدة بل سيرفع الصوت عالياً، ووجه إلى ديل كول لوماً شديداً لأنه بمواقفه ينحاز لإسرائيل ويغادر دور الوسيط! خرج ديل كول من السراي وتواصل رأساً مع السفيرة الأميركية، مُعبّراً لها عن استيائه الشديد من موقف دياب، بما معناه “من وين طلعلنا هيدا”! لم ينته الأمر عند هذا الحد. جاء خطاب دياب العلني خلال زيارته في 27 أيار/مايو إلى مقر قيادة “اليونيفيل” في الناقورة الحدودية، ليصب في الخانة نفسها!
*.. حتى الصين!*
بلغت ندية دياب في التعامل مع الملفات ذروتها عند تعاطيه الشأن الاقتصادي. هو ليس خبيرا إقتصاديا لكنه أحاط نفسه بعدد من الخبراء والوزراء الملمين بالشأن الإقتصادي والمالي. عندما إشتد الضغط الأميركي على الحكومة، راح يبحث عن بدائل بعد تمنع الأميركيين والأوروبيين والخليجيين عن مساعدة ودعم لبنان، وتحديداً لجهة إصلاح قطاع الكهرباء. وسّع دائرة خياراته من ألمانيا فإيطاليا إلى اليونان، ولم يستثن حتى الصين!
كل الأحاديث عن “التوجه الحكومي شرقاً” ظلت حبراً على ورق، إلى حين حضور الوفد الصيني إلى السراي الكبير. تبع الاجتماع لقاءات أخرى بين اللجنة الوزارية المختصة والصينيين في بيروت ولاحقاً عبر تقنية الـZoom. وبالرغم من أن الأمور مع الصين ومشاريعها ليست بالسهولة المرجوة، لم يجد حرجاً باستكمال هذا المسعى، برغم قناعته أن رافضيه من داخل الفريق الحكومي أكثر من أولئك المعارضين أصلاً للحكومة. “هل أنت جدّي في ما تفعل”؟ سألته السفيرة الأميركية، قاصدة خيار التوجه نحو الصين، فأجابها مبتسماً: “حتماً”!
*طبقاً لرؤية دياب إذا ارتفع سعر الصرف الرسمي ليس إلى سعر المنصة بل إلى 1800 ل.ل. “بتخرب الدني والناس بتاكل بعضها”*
*“الناس بتاكل بعضها”*
تجربة إدارة البلاد خلال أصعب مرحلة في تاريخ لبنان وأعقدها، مكّنت دياب من الإلمام بأمور عديدة. في لبنان حالياً 70% من المعاملات تتم حسب سعر الصرف الرسمي للدولار، أي 1515 ليرة لبنانية (قروض السكن والسيارات وغيرها ودفع فواتير الهاتف الخلوي وأمور عديدة).. و20% من المعاملات تتم حسب سعر صرف المنصة أي على ال 3900 ل.ل. أما الـ10% المتبقية فهي تتم حسب سعر السوق السوداء. وعليه فإنه طبقاً لرؤية دياب إذا ارتفع سعر الصرف الرسمي ليس إلى سعر المنصة بل إلى 1800 ل.ل. “بتخرب الدني والناس بتاكل بعضها”.
يشير ذلك إلى أن أمرين يحولان دون الانهيار الاقتصادي والمالي الشامل، ألا وهما “دعم مصرف لبنان (دعم المحروقات والدواء والسلع الغذائية والطحين) وإستمرار تثبيت سعر الصرف الرسمي على 1515 ليرة”.
*مقبلون على ما هو أسوأ*
بطبيعة الحال، يعارض دياب رفع الدعم مهما كان الثمن. البداية كانت من قرار حكومته بالامتناع عن دفع سندات اليوروبوند خلال العام 2020 وقيمتها مليارين ونصف المليار دولار وحوالي المليارين فوائد مستحقة لسندات لاحقة، مقابل المضي بخطة إصلاحية وصمود الدعم لفترة أطول، كان الحديث حينها عن ثلاث سنوات. يعتقد أنه لو لم تقم الحكومة بهذه الخطوة لكانت الأمور قد إتخذت منحى خطيراً منذ آذار/مارس الماضي (تاريخ إعلان التعثر عن دفع سندات اليوروبوند). كان الحديث بأن المبلغ لدى مصرف لبنان سيتقلص ضربة واحدة من 22.5 إلى 17.5 مليار دولار، وبالتالي كان سعر “ربطة الخبز” سيصبح منذ ذلك الحين بحوالي 8000 ليرة. المفاجئ مؤخراً هو تصريح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة حول رفع الدعم بعد استقالة الحكومة. “لماذا هذا التصريح بعد إستقالة الحكومة؟ هو لم يتجرأ على فعل ذلك قبل الاستقالة”، يقول دياب، مضيفاً بأن الأمور في حال رفع الدعم وتحرير سعر الصرف “تنذر بأننا مقبلون على أوضاع اقتصادية ومالية وإجتماعية كارثية ومأساوية”.
*دياب: “من يطّلع على الخطة الإصلاحية للحكومة يجد أنها مشابهة تماماً لورقة المبادرة الفرنسية”، غير أن محاربة خطة حكومتنا هو أمر سياسي محض*
خطة الحكومة كانت تقتضي قبل الاستقالة، بفرض ضرائب مالية على الودائع المصرفية التي تفوق قيمتها المليون دولار، وعلى كل من إستفاد من أرباح الهندسات المالية السابقة، وبالتالي كان يمكن أن يحقق ذلك للخزينة قرابة الـ8 مليارات دولار، وتعود الأمور إلى مجاريها بدمجها مع أموال “سيدر” وما يمكن أن يرصده صندوق النقد للبنان، علماً أن “الصندوق” كان قد صادق على أرقام الحكومة وليس على أرقام “لجنة تقصي الحقائق” النيابية أو مصرف لبنان في ما يخص تقدير الخسائر. *- يتبع.. -